السوريون في هولندا: بين السياسة والانتظار الطويل
في هذا المقال نستعرض ما جاء في حلقة الدكتور أبو بكر باذيب الأخيرة من بودكاست “ماذا بعد؟”، والتي جاءت تحت عنوان: “السوريون والمصير المجهول: صراع الأحزاب واللاجئين”.
لم تكن حلقة عابرة من حلقات البودكاست السياسي “ماذا بعد؟”، بل كانت بمثابة توثيق صوتي لمرحلة حاسمة يعيشها اللاجئون السوريون في هولندا. بأسلوب هادئ وتحليل دقيق، قدّم الدكتور أبو بكر باذيب في حلقته الأخيرة قراءة معمقة لمآلات ملف اللجوء السوري، في ظل التغيرات السياسية المتسارعة بعد استقالة خيرت فيلدرز، ومحاولات تشكيل حكومة جديدة تعيد رسم السياسات العامة، ومن بينها سياسة الهجرة.
بدأ الدكتور باذيب حديثه بإشارة واضحة إلى التغير النوعي في تعامل السلطات الهولندية مع اللاجئين السوريين. لم يصدر أي قانون جديد يغير من موقف الدولة تجاه سوريا، لكن الإجراءات التي فُرضت مؤخرًا، بحسب وصفه، كفيلة بإحداث تحول جذري في مستقبل آلاف السوريين المنتظرين في مراكز الإيواء. تم رفع التجميد عن ملفاتهم، ولكن بشروط جديدة؛ لم تعد صفة “سوري” وحدها كافية، بل صار على كل طالب لجوء أن يقدم “قصة فردية” تبرر منحه الحماية الدولية.
هذه “القصة”، كما وصفها باذيب، تحولت إلى معيار أساسي في عملية التقييم. لم يعد يُقبل أن يقول اللاجئ إنه فر من الحرب أو من التجنيد الإجباري أو من الاعتقال السياسي. بات عليه أن يوضح، تفصيلًا، ما هو “الخطر الشخصي المحدق به”، وما طبيعة الانتهاك أو التهديد الذي يتعرض له هو تحديدًا، لا الوضع العام في بلده.
المفارقة أن هذا التحول لم يأت عبر البرلمان أو من خلال تعديل تشريعي، بل عبر ما وصفه الدكتور بـ”هندسة إدارية دقيقة” تقوم على تفعيل تقارير أمنية وخارجية وتوجيه المقابلات بشكل يضيق فرص القبول. أشار إلى أن تقرير وزارة الخارجية الهولندية لم يعلن أن سوريا أصبحت آمنة، لكنه تحدث عن “انخفاض مستوى العنف العشوائي”، وهي عبارة تحمل من الغموض ما يسمح للسلطات بتضييق الخناق على من تبقى من السوريين في المسار القانوني للجوء.
ويقدّر عدد السوريين الخاضعين لهذه الإجراءات الجديدة بنحو 17,000 شخص، يتوزعون على مراكز الإيواء ويواجهون واقعًا جديدًا. والواقع، كما وصفه الدكتور باذيب، ليس سوى سلسلة متراكبة من “مستويات الفلترة” التي تبدأ من الضغط النفسي والإشاعات، مرورًا بالتذبذب السياسي، وصولًا إلى المقابلات الفردية التي تُحوّل الألم إلى وثيقة يجب أن تُصاغ بعناية ودقة.
في سرديته التحليلية، لم يغفل باذيب الإشارة إلى البعد السياسي الأوسع. فالصراع بين الأحزاب، بحسب وصفه، أنتج حالة من التوظيف السياسي لملف اللجوء، ووزّعت حقيبة الهجرة بين ثلاثة أطراف، مما أدى إلى قرارات متناقضة وتضارب في التوجهات، ينعكس مباشرة على اللاجئين الذين يدفعون الثمن.
ويبدو أن هذه السياسات، كما يرى الدكتور باذيب، ليست عابرة أو وقتية، بل جزء من مسار أوروبي عام يسعى إلى إعادة تعريف مفهوم اللجوء ذاته. لم يعد يكفي أن تكون قادمًا من بلد في حالة حرب، بل يجب أن تكون “مهددًا شخصيًا”، وأن تُثبت ذلك من خلال ملف مُفصّل، وربما أيضًا، من خلال الحظ.
وبينما تتجه الأنظار إلى بداية العام القادم وما سيصدر من أرقام رسمية وإحصاءات، يعتقد باذيب أن المفاجأة ستكون في انخفاض كبير في عدد اللاجئين القادمين، نتيجة للضغط المتراكم والإجراءات الجديدة التي نجحت – وفق تعبيره – في تقليص اللجوء بنسبة تصل إلى 60%، دون الحاجة لأي قانون.
واختُتمت الحلقة بنصيحة واضحة، موجهة لكل طالب لجوء سوري: لا تكتفِ بالقول إنك سوري، بل استعد لتقديم رواية شخصية، مدعومة بالتفاصيل، ومتماسكة مع تقارير وزارة الخارجية، تمامًا كما لو كنت تدخل امتحانًا مصيريًا، لأن مستقبلك القانوني في هذا البلد بات مرهونًا بتلك القصة، لا بواقع وطنك العام.