من التضخم إلى التأمين الصحي: قراءة جديدة في التحديات التي تواجه المواطن الهولندي اليوم
في قلب أوروبا، حيث تُعرف هولندا بتوازنها الاقتصادي وجودة الحياة المرتفعة، بدأت ملامح قلقٍ جديد تتسلل إلى يوميات المواطن الهولندي. تزداد الشكاوى من الغلاء المعيشي، وتحتد أزمة الإسكان، وتتراجع ثقة الناس في نظام التأمين الصحي، وكلها مؤشرات على أن البلاد تواجه تحديات عميقة تمس صلب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
التضخم، الذي لطالما بدا وكأنه من مخلفات عقود مضت، عاد بقوة في السنوات الأخيرة، متأثراً بتبعات بجائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية. أسعار السلع الأساسية، من الغذاء إلى الطاقة، ارتفعت بوتيرة غير مسبوقة، ما ضغط على القدرة الشرائية للأسر الهولندية خصوصا متوسطة الدخل. أصبح من الشائع أن ترى مواطنين يعيدون حساباتهم في المتاجر أو يختارون منتجات أرخص، بينما أُجبر كثيرون على تقليص نفقاتهم على الترفيه أو الادخار أو حتى الضروريات.
أزمة السكن تُعد من أبرز القضايا إلحاحاً. فالهولنديون يواجهون سوقاً عقارية مشبعة بالمضاربة والأسعار المرتفعة. الطلب على المنازل يفوق العرض بكثير بالإضافة لقائمة انتظار طويلة للحصول على منزل، ما جعل إيجاد مسكن مناسب بسعر معقول مهمة شبه مستحيلة، خاصة للشباب والعائلات محدودة الدخل. رغم محاولات الحكومة لبناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة سنوياً، إلا أن الإجراءات البيروقراطية، ونقص الأراضي، والمقاومة المحلية لمشاريع البناء تعرقل التنفيذ السريع.
أما نظام التأمين الصحي، الذي كان يُضرب به المثل في الكفاءة، فلم يسلم من الأزمة. المواطنون يشتكون من أقساط التأمين المرتفعة، وزيادة المشاركة الذاتية، وطول فترات الانتظار للحصول على الرعاية الطبية المتخصصة. كما أدى النقص في الكوادر الطبية والضغوط المتزايدة على المستشفيات إلى تراجع جودة الخدمات في بعض المناطق، ما عمق شعوراً بعدم المساواة بين فئات السكان.
ورغم هذا المشهد القاتم نسبياً، توجد حلول مطروحة وممكنة. ففي مواجهة التضخم، لجأت الحكومة إلى تقديم حزم دعم مالي للفئات الضعيفة، مثل إعانات الطاقة وتخفيض الضرائب المؤقتة، كما يعمل البنك المركزي الأوروبي على التحكم بسعر الفائدة لكبح التضخم تدريجياً. وعلى صعيد السكن، تُطرح مبادرات لتسريع إصدار تصاريح البناء، وتحفيز البلديات على تخصيص أراضٍ للمشاريع السكنية، وتشجيع البناء المستدام الذي يقلل من الكلفة والآثار البيئية.
أما في قطاع الصحة، فالنقاشات تتجه نحو إعادة النظر في نظام الخصخصة الجزئي، وتعزيز الاستثمار في تدريب الكوادر، وتوسيع نطاق الخدمات الرقمية لتخفيف الضغط عن المستشفيات. كما أن هناك توجهاً لتقوية الرعاية الأولية في الأحياء، بما يعزز الوقاية ويخفف الضغط على النظام ككل.
المواطن الهولندي، المعروف بوعيه المدني وثقته بالمؤسسات، يجد نفسه اليوم أمام اختبار صعب. هل يستطيع المجتمع الهولندي الحفاظ على نموذجه الاجتماعي التقدمي في وجه الأزمات المتعددة؟ الإجابة ستتوقف على مدى قدرة متخذي القرار على اتخاذ قرارات جريئة، وتعاون المجتمع بكل فئاته لعبور هذا المنعطف الصعب بثبات.
الحلول التي يمكن أن تساعد في معالجة المشاكل التي يواجهها المواطن الهولندي تتنوع ما بين إجراءات حكومية فورية، وتغييرات هيكلية على المدى الطويل. إليك تفصيلاً لأبرز الحلول المتاحة لكل مشكلة من المشكلات الثلاث: التضخم وغلاء المعيشة ودعم الدخل للفئات الضعيفة: الحكومة الهولندية تقدم مساعدات مالية مباشرة (مثل إعانات الطاقة)، كما يمكن توسيع نطاق هذه المساعدات لتشمل المزيد من الأسر المتوسطة الدخل.
تخفيض الضرائب المؤقت على السلع الأساسية: تقليل ضريبة القيمة المضافة (BTW) على المنتجات الغذائية والطاقة يساعد في تقليل الأثر المباشر للتضخم.
سياسة نقدية متوازنة: عبر رفع أسعار الفائدة، يسعى البنك المركزي الأوروبي لتقليل الإنفاق وكبح التضخم، مع ضرورة التوازن حتى لا يؤدي ذلك إلى ركود اقتصادي.
تشجيع الإنتاج المحلي: دعم الزراعة والصناعة المحلية يمكن أن يقلل الاعتماد على الواردات، ما يخفف من تقلبات الأسعار العالمية.
أزمة السكن تسريع إصدار تصاريح البناء: الحكومة تخطط لتقليل الإجراءات البيروقراطية التي تؤخر المشاريع السكنية، مما يسمح ببناء وحدات سكنية أسرع.
زيادة العرض من خلال البناء المكثف: خطط لبناء حوالي 900 ألف منزل جديد بحلول عام 2030، مع تخصيص نسبة كبيرة منها للإسكان الاجتماعي أو المتوسط.
تنظيم السوق العقارية:
وضع سقوف للإيجارات في بعض المناطق، ومنع المضاربة المفرطة في العقارات، يمكن أن يخفف من ارتفاع الأسعار.
تحفيز البلديات: تقديم حوافز مالية للبلديات التي تخصص أراضٍ للبناء السكني.
تشجيع السكن التشاركي والمؤقت: استخدام المباني غير المستغلة كسكن مؤقت، والترويج لأنماط سكن بديلة مثل “co-housing” أو السكن المصغر.
ثالثاً: مشاكل نظام التأمين الصحي والرعاية الطبية
تقليل المشاركة الذاتية (Eigen risico): النظر في خفض المبلغ الذي يدفعه المريض من جيبه الخاص قبل أن يبدأ التأمين بتغطية التكاليف.
زيادة التمويل العام: ضخ أموال إضافية في النظام الصحي، خاصة لتقوية الرعاية الأولية والمستشفيات.
الاستثمار في الكوادر الطبية:
تدريب وتحفيز العاملين في قطاع الصحة وتحسين ظروف عملهم لتقليل النقص في الكوادر.
التحول الرقمي في الرعاية الصحية: توسيع الخدمات الصحية الرقمية (مثل الاستشارات الطبية عن بُعد) لتقليل الضغط على العيادات والمستشفيات.
إعادة التوازن بين القطاع العام والخاص: إعادة تقييم دور شركات التأمين الخاصة في النظام الصحي، والنظر في خيارات تعيد الأولوية للرعاية كمصلحة عامة وليست سلعة.
جميع هذه الحلول تتطلب إرادة سياسية، وتعاوناً من الأطراف الفاعلة: الحكومة، البلديات، شركات التأمين، والمواطنين أنفسهم. ورغم أن تطبيقها لن يكون سهلاً أو سريعاً، فإنها تمثل خطوات ضرورية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في هولندا.